تحرير العراق من براثن الاحتلال الداعشي أصبح في حكم المنجز، لا سيّما وأن القوات العراقية وبمشاركة قوات التحالف الدولي مستمرة بتحقيق أهدافها في معارك قتل عناصر داعش وتدمير مواقعه. ومع انتهاء معركة الموصل، من الممكن أن تنتهي حكاية وجود هذه الزمر الإجرامية وقصصها المأساوية والمفجعة إذا ما تم اتخاذ التدابير اللازمة.
دول عديدة عاشت كارثة الحرب بأقصى مظاهر الخراب والدمار الشامل، ومنها اليابان التي وضعت مشروع إعادة تأهيل الإنسان نفسيا وتحريره من الشعور بالهزيمة والخوف من المستقبل وجعله عنصر بناء وتحدي للصعاب. دول أوروبية كثيرة ذاقت ويلات ومرارات الحروب وخسائرها البليغة ودمارها الشاملة كما حصل في فرنسا وألمانيا ودول البلقان وغيرها، لكنها استطاعت أن تتجاوز تلك الصدمات عبر برامج ثقافية وتربوية ومعالجات نفسية وأخرى صحية ورعاية استثنائية تقدمها الدولة للمتضررين من تلك الكوارث الإنسانية ، النكبة العراقية التي حدثت جراء دخول “داعش” للعراق واحتلال الموصل والمدن الأخرى أحدثت ذات الخراب الشامل والتدمير المادي والمعنوي، ناهيك عن الآثار النفسية التي غارت في أعماق الشعب الذي تعرض للقتل والتهجير والنزوح وسلب الممتلكات والكرامة والحاضر والمستقبل.
هذه الرؤية تستدعي بالضرورة حملة وطنية واسعة وجهودا مكثفة وتوفير مناهج وأساليب تربوية وإعلامية وثقافية بناءة وتستند لمفاهيم علم النفس وعلم الاجتماع، وتشارك فيها الجامعات والمعاهد العلمية ومنظمات المجتمع المدني ومؤسسات الثقافة والفكر والفنون والإعلام والمرجعيات الدينية لمختلف الأديان، هذا على الجانب المعنوي والنفسي واستقرار قواعد الثقة بالآخر الذي يتشارك معه بالوطن. لكن الجانب الآخر الذي يمثل ذات الأهمية وقاعدة الاستقرار لوضع المعالجات، ونقصد به الجانب المادي والتعويضات التي تقدم للمواطنين جراء فقدانهم ممتلكاتهم وثرواتهم وبيوتهم وكدح العمر الذي استلبه الدواعش.
العراق يعاني نقصا كبيراّ في هذا المضمار، وإذا تجاوزنا مظاهر التقشف وتراجع القدرات المالية للعراق في تعويض خسائر ربما تصل إلى عشرات المليارات من الدولارات للموصل وحدها، فإنه لم يجرب معالجة المجتمع نفسيا، رغم مروره بأربعة حروب طويلة وخامسها حرب “داعش”.
لذا ينبغي أن يهرع العالم لمساعدة العراق بهذا الموضوع العضوي المهم لمستقبل البلاد واستقرارها، وضرورة أن يتقدم العراق رسميا ًوبدعم المجموعة العربية في الأمم المتحدة، وبمساعدة أميركا ودول التحالف ضد داعش، إلى طلب المساعدة الأممية وعلى غرار مشروع مارشال الشهير بعد الحرب العالمية الثانية، والحرص على صدور قرارات ملزمة عن الأمم المتحدة لمساعدة العراق وتجاوز أزمته الكبرى.
الحرب ضد “داعش” هي ضد عدو يهدد العالم أجمع، وهو ما يشجع الدولة العراقية على تأكيد طلبها بتحقيق هذا الإجراء الضروري، كونها تحملت الثقل الأكبر وأضخم التضحيات التي طالت المواطن العراقي وتركت فيه جروحا عديدة وآثارا نفسية ليس من اليسير معالجتها.
برنامج إعادة التأهيل المجتمعي وإعادته إلى حياة السلم يقترح جملة تشريعات لقوانين تعمل على إعادة الأمور إلى نصابها ومعالجة ما تعرض للخدش وتعويض من تضرر جراء عدوان داعش، ومن هنا ينبغي أن تذهب القوانين والإجراءات إلى ما يلي:
- إعادة التركيبة الديموغرافية لسابق عهدها والمحافظة على طبيعة التعايش بين مختلف الأعراق والطوائف، وبذات التشكيل والنسب السائدة قبل 9 حزيران/يونيو 2014، وعدم السماح مطلقاً لأي تغييرات ديموغرافية تسعى بعض الجهات الإقليمية لإحداثها بين سكان المنطقة وتنويعاتها الإثنية.
- دفع تعويضات مادية تناسب الخسائر بالأرواح والممتلكات التي نهبت في ظل داعش ومن جراء عدوانها، واعتبار كل من قتل أو فقد شهيداً، ويستحق حقوق الشهيد.
- إنهاء المظاهر المسلحة ووجود الميليشيات والجماعات المسلحة وحصر السلاح بيد الدولة وسيادة القانون والنظام، ومنع أي شكل من أشكال الثأر والانتقام خارج نطاق القانون والقضاء.
- وضع برامج معالجات نفسية من خلال مصحات ومراكز علاج نفسية وثقافية تؤكد على أهمية التعايش السلمي والمواطنة والتثقيف بأسباب دخول داعش، لمجتمع كان متعايشاً عبر تاريخه الطويل.
- توفير الحريات التامة التي ضمنها الدستور العراقي، والحفاظ على المناخات الاجتماعية والطقوس والممارسات التي تتميز بها الجماعات الإثنية.
- ينبغي أن تشارك المؤسسة الدينية الإسلامية والمسيحية والأيزيدية بنشر فتاوى وتعاليم التسامح، ولئم الجراح التي تسببت بها جرائم داعش مثل اغتصاب النساء والرجال، ومعالجة الموضوع وفق إرشاد ديني يعالج مثل تلك الظواهر التي تترشح عن الحروب.
آثار تدميرية وسلبية عدة سيتركها داعش على البنية المجتمعية في الدولة العراقية، وتحتاج إلى زمن وصبر طويل لكي تمحى مع توفر الجهود والإصرار، وقدرات مادية وعلمية وتربوية وثقافية تتظافر لإنقاذ المجتمع من ترسبات تنظيم داعش ومخلفاته الجرمية.